مقالات أدبية

الطبيعة القاسية أحمد خالد توفيق

مقالات

اقسام المقالة

الطبيعة القاسية

رأيت في قناة ناشونال جيوجرافكس فيلمًا شنيعا لا أستطيع أن أطرده من ذهني.. أسد طرد أسدًا آخر وفاز بزوجته.. أول شيء عمله هو أن قتل أشبال الأسد الأول لتكون الذرية من نسله هو.. تخيل مشهد أربعة أشبال رائعة الجمال تلعب كالقطط.. ثم تجري نحو الأسد القاتل لتلعب معه وهي تتواثب في الهواء باعتباره (أب).. لكنه يقتلها واحدا تلو الآخر ويحمل كل واحد جثة ممزقة غارقة في الدم ليلقيها بعيدًا.. كما قال مصور “ناشونال جيوجرافكس” هذا مشهد يحطم الأعصاب ويصعب تحمله.. الحياة قاسية جدا جدا، ويبدو أن شوبنهاور كان على حق.

الناس لا تفهم شيئا عندما تتحدث عن أن الوحوش لا تقتل إلا لتأكل وأنها أكثر رحمة من البشر٫أرى أن هذا كلام فارغ.. القسوة في كل مكان.. نحن فقط نحاول أن نجعل الوحوش على مثالنا الأخلاقي، بينما هي فعلا تعمل بقانون واحد هو نداء الطبيعة.. مثلها مثل الفيضان والبركان.الطبيعة نفسها كيان هائل القوة عظيم الكبرياء يصعب التعامل معه باستخفاف، وكل من جربوا هذا دفعوا الثمن غاليًا. هناك من يحسبون أنهم بارعون فعلا، أو أنهم فهموا قواعد اللعبة جيدًا، أو أنهم عقدوا اتفاقية عدم اعتداء مع الطبيعة، وفي لحظة بعينها يدركون أنهم كانوا مخطئين، وأن الطبيعة لا تتخذ أصدقاء ولا تهادن.. هي فقط تتناساك أحيانًا على سبيل الملل أو لأن عندها أشياء أهم، ثم تتذكرك فجأة فتكون النتيجة مروعة.عام 2005 قدم المخرج الألماني المجنون (فيرنر هرتزوج) فيلمه التسجيلي الطويل (الرجل الأشهب).

إقرأ أيضا:المرأة كائن لا يمكن فهمه – أحمد خالد توفيق

الفيلم كان قطعة جميلة حزينة من الفن، وطرح تساؤلات عديدة عن الأوهام التي تستبد بنا، وعن علاقة الإنسان بالحيوان، وعن الخدعة الكبرى التي نقنع بها أنفسنا أن الحيوانات هم إخوتنا المتنكرون في فراء. الحيوان هو الحيوان والإنسان هو الإنسان، ولا يمكن أن يلتقيا أبدًا. هذا ما يحاول الفيلم أن يؤكده. وفي إحدى لقطات الفيلم نرى لقطة مرعبة قريبة جدا لعيني دب أشهب، بينما يقول هيرتزوج بصوته العميق ذي اللكنة الألمانية: “عندما أنظر إلى عيني هذا الدب فإنني أرى كل (لا مبالاة) الطبيعة وقسوتها.. لقد اعتبر تريدويل هذا الدب صديقًا له.. روحًا حبيسة خلف الفراء، بينما الدب ظل يتعامل معه بعدم اكتراث، ثم اعتبره صنفًا غذائيا في لحظة ما بلا سبب”.

من هو تريدويل هذا؟

من هو تريدويل هذا؟الفيلم يحكي عن مأساة مروعة واقعية حدثت للمصور وحامي الطبيعة (تيموثي تريدويل – 46 سنة) ومعه صديقته (آمي هوجونارد – 37 سنة) التي ماتت وهي تحاول الدفاع عنه، رغم أنه صرخ فيها مرارًا بأن تفر.كان تريدويل نموذجًا للأحمق الذي استولت عليه فكرة واحدة: الدببة كائنات لطيفة. والهاجس الآخر الذي سيطر عليه هو أنه يجب أن يحب الطبيعة ويحمي الكائنات.. الكائنات التي لم تكن بحاجة لحماية أصلا لأنه لا خطر يهددها.لقد ذهب إلى ألاسكا مع كاميرا فيديو، وهناك في حديقة (كاتامي) التي يوجد بها أكبر عدد من الدببة الشهباء في العالم، راح على مدى 13 سنة يصور الدببة ويصور محاولاته للتودد إليها، حتى قابل الدب الخطأ في الزمن الخطأ يوم 5 أكتوبر عام 2003.في جزء من الفيلم يقول أحد الهنود الأصليين من سكان ألاسكا: لقد تعلم قومي على مدى آلاف السنين أن يحترموا الدببة، وأن يكون الاحترام متبادلا، وألا يحاولوا اجتياز الخط الفاصل بيننا وبينها.

إقرأ أيضا:يوما ما – أحمد خالد توفيق

تريدويل اجتاز هذا الخط أكثر من مرة، ودفع الثمن غاليًا. وفي الفيلم تتكرر الإشارة إلى هذا الخط الفاصل غير المرئي.. الخط الذي يساوي أن يتحول المرء إلى جثة ممزقة نزع اللحم عن عظامها.هناك علماء حيوان آخرون قالوا إن تريدويل علم الدببة ألا تخاف البشر وبهذا آذى الاثنين معًا.. بعض الناس يعتبرون تريدويل مهرجًا مولعًا بالشهرة ومدمن مخدرات، بينما يعتبره بعض مصوري الدببة عبقريا آمن بفكرة واحدة ومات من أجلها.

تريدويل كان واثقًا بنفسه أكثر من اللازم.. لم يستعمل السبراي الطارد للدببة، ولم يستعمل السلك الواقي المكهرب الذي يحيط به دارسو الدببة خيامهم. كان ينصب خيامه حيث يوجد أكبر عدد من آثار أقدام الدببة. لهذا نال شرف أن يكون أول من تقتله الدببة في المحمية كلها.الحراس قالوا إن الدب الذي هاجمه كان غريبًا لا ينتمي لمجموعته من الدببة، وقد اضطروا إلى قتل دبين كي يستردوا رفاته.عندما وقع الهجوم كانت الكاميرا تعمل لكنها كانت مغطاة،

لهذا سجلت صوت الصراخ وزمجرة الدب وضربات الفتاة بالكسرولة على رأس الدب كي يفتح فمه، وفي جزء من الفيلم يصغي هيرتزوج بسماعة أذن لهذا الشريط، ثم يوصي بتدميره على الفور كي لا يسمعه أحد. من سمعوه قالوا إنه مرعب.من المؤسف أن حرس الحديقة قتلوا الدب الذي قتل تريدويل. أي أن رغبة تريدويل في حماية الدببة أدت إلى مقتل أول دب بالرصاص في المحمية كلها!يعتمد فيلم الرجل الأشهب على اللقطات التي صورها تريدويل للدببة على مدى 13 عامًا ومئة ساعة من التصوير، والحقيقة أنه مصور بارع حقا.. هناك لقطات مبهرة جدا للدببة في حياتها الطبيعية وهي تأكل أو تستحم أو تتقاتل.

إقرأ أيضا:ماذا علمتني الحياة ؟ د جلال أمين

هناك معركة مرعبة بين دبين عملاقين، يصورهما تريدويل من على بعد أمتار. في مناسبات كثيرة يقف تريدويل أمام الكاميرا ليتكلم عن حبه الشديد للدببة. لقد بلغ درجة العشق، وفي تتابع (مقرف) فعلا يتفحص بحنان كومة برازية هائلة تركتها واحدة من حبيباته ذوات الفراء، ويقول في رقة: “لقد كان داخلها!”الفيلم مليء كذلك بلقاءات مع أشخاص عرفوا تريدويل حيا أو ميتا، ونرى تباين الآراء حوله بشكل غير مسبوق، فهو الفيلسوف الرقيق والشهيد، وهو المخبول الذي لعب بالنار فأحرقته وأحرقت صديقته البريئة. وكما يقول أحد من التقى معهم الفيلم: “هذا رجل أراد أن يموت بهذه الطريقة.. بعبارة أخرى لقد نال ما يستحق. وليست أفلامه التي صورها على مدى 13 عامًا إلا أطول رسالة انتحار في التاريخ!”

أحمد خالد توفيق مقال عن الطبيعة القاسية

السابق
قصيدة يمشي الفقير وكل شيء ضده – ديوان الإمام الشافعي
التالي
أمثال شعبية مصرية

اترك تعليقاً